سورة البلد - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البلد)


        


قرأ الحسن بن أبي الحسن {لأقسم} دون ألف، وقرأ الجمهور: {لا أقسم}، واختلفوا فقال الزجاج ويغره: {لا} صلة زائدة مؤكدة، واستأنف قوله {أقسم}، وقال مجاهد {لا} رد للكلام متقدم للكفار، ثم استأنف قوله {أقسم}، وقال بعض المتأولين {لا} نفي للقسم بالبلد، أخبر الله تعالى أنه لا يقسم به، ولا خلاف بين المفسرين أن {البلد} المذكور هو مكة، واختلف في معنى قوله {وأنت حل بهذا البلد} فقال ابن عباس وجماعة: معناه وأنت حلال بهذا البلد يحل لك فيه قتل من شئت، وكان هذا يوم فتح مكة، وعلى هذا يتركب قول من قال السورة مدنية نزلت عام الفتح، ويتركب على التأويل قول من قال: {لا} نافية أي إن هذا البلد لا يقسم الله به، وقد جاء أهله بأعمال توجب إحلال حرمته، ويتجه أيضاً أن تكون {لا} غير نافية. وقال بعض المتأولين: {وأنت حل بهذا البلد} معناه: حال ساكن بهذا البلد، وعلى هذا يجيء قول من قال هي مكية، والمعنى على إيجاب القسم بين وعلى نفيه أيضاً يتجه على معنى القسم ببلد أنت ساكنه على أذى هؤلاء القوم وكفرهم، وذكر الثعلبي عن شرحبيل بن سعد أن معنى {وأنت حل} أي قد جعلوك حلالاً مستحل الأذى والإخراج والقتل لك لو قدروا، وإعراب {البلد} عطف بيان، وقوله تعالى: {ووالد وما ولد} قسم مستأنف على قول من قال: {لا} نافية، ومعطوف على قول من رأى {لا} غير نافية، واختلف الناس في معنى قوله: {ووالد وما ولد}، فقال مجاهد: هو آدم وجميع ولده، وقال بعض رواة التفسير: هو نوح وجميع ولده، وقال أبو عمران الجوني: هو إبراهيم وجميع ولده، وقال ابن عباس ما معناه: أن الوالد والولد هنا على العموم فهي أسماء جنس يدخل فيها جميع الحيوان، وقال ابن عباس وابن جبير وعكرمة: {ووالد} معناه: كل من ولد وأنسل، وقوله {وما ولد} لم يبق تحته إلا العاقر الذي ليس بوالد البتة، والقسم واقع على قوله: {لقد خلقنا الإنسان في كبد}، واختلف الناس في الكَبد فقال جمهور الناس: {الإنسان} اسم الجنس كله، والكبد المشقة والمكابدة، أي يكابد أمر الدنيا والآخرة، ومن ذلك قول لبيد: [المنسرح]
يا عين هلا بكيت أربد إذ *** قمنا وقام الخصوم في كبد
وقول ذي الإصبع: [البسيط]
لي ابن عم لو أن الناس في كبد *** لظل محتجراً بالنبل يرميني
وبالمشقة في أنواع أحوال الإنسان فسره الجمهور، وقال الحسن: لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم، وقال ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبو صالح ومجاهد {في كبد} معناه: منتصف القامة واقفاً، وقال ابن زيد: {الإنسان}: آدم عليه السلام، و{في كبد} معناه: في السماء سماها كبداً، وهذان قولان قد ضعفا والقول الأول هو الصحيح، وروي أن سبب الآية وما بعدها هو أبو الأشدين رجل من قريش شديد القوة، اسمه أسيد بن كلدة الجمحي، كان يحسب أن أحداً لا يقدر عليه، ويقال بل نزلت في عمرو بن ود، ذكره النقاش، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة وقتله علي بن أبي طالب خلف الخندق، وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفارة فقال: لقد {أهلكت مالاً} في الكفارات والنفقات مذ تبعت محمداً، وكان كل واحد منهم قد ادعى أنه أنفق مالاً كثيراً على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو في الكفارات على ما تقدم، فوقف القرآن على جهة التوبيخ للمذكور، وعلى جهة التوبيخ لاسم الجنس كله.


في هذه الآية على عرف كلام العرب، استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال تشبيه بعقبة الجبل، وهي ما صعب منه وكان صعوداً، و{اقتحم} معناه: دخلها وجاوزها بسرعة وضغط وشدة، وأما المفسرون فرأوا أن {العقبة} يراد بها جبل في جهنم، لا ينجي منه إلا هذه الأعمال ونحوها، قاله ابن عباس وقتادة، وقال الحسن: {العقبة} جهنم، قال هو وقتادة فاقتحموها بطاعة الله، وفي الحديث: «إن اقتحامها للمؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء» واختلف الناس في قوله {فلا} فقال جمهور المتأولين: هو تحضيض بمعنى فألا، وقال آخرون وهو دعاء بمعنى أنه ممن يستحق أن يدعى عليه بأن لا يفعل خيراً، وقيل هي نفي، أي فما اقتحم، وقال أبو عبيدة والزجاج وهذا نحو قوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: 31] فهو نفي محض كأنه قال: وهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل فما فعل خيراً، ثم عظم الله تعالى أمر العقبة في النفوس بقوله: {وما أدراك ما العقبة}؟ ثم فسر اقتحام العقبة بقوله {فك رقبة} وذلك أن التقدير وما أدراك ما اقتحام العقبة؟ هذا على قراءة من قرأ «فكُّ رقبة» بالرفع على المصدر، وأما من قرأ {فكّ} على الفعل الماضي ونصب الرقبة، فليس يحتاج أن يقدر {وما أدراك} ما اقتحام، بل يكون التعظيم للعقبة نفسها، ويجيء {فكّ} بدلاً من {اقتحم} ومبيناً. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة {فك رقبة أو إطعام} وقرأ أبو عمرو {فك رقبةً} بالنصب {أو أطعم}، وقرأ بعض التابعين {فكِّ رقبة} بالخفض، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أيضاً والكسائي {فكِّ رقبة} بالنصب {أو إطعام}. وترتيب هذه القراءات ووجوهها بينة، وفك الرقبة معناه: بالعتق من ربقة الأسر أو الرق، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أعتق نسمة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار». وقال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل أنجو به، فقال: «لئن قصرت القول لقد عرضت المسألة فك رقبة، وأعتق النسمة»، فقال الأعرابي: أليس هما واحداً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها».
قال القاضي أبو محمد: وكذلك فك الأسير إن شاء الله، وفداؤه أن ينفرد الفادي به، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: «وأبق على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق هذا كله، فكف لسانك إلا من خير».